رام الله مكس - كتبت سفيرة فلسطين في كندا (منى أبو عمارة)
كوني فلسطينية، عرفت دوما معنى الظلم وذقت طعم مرارة آلامه على أنواعها، وسأشارككم بعضها.
بصفتي سليلة "النكبة، فقد مُنيتُ وعائلتي وعائلات أخرى لا تُعد ولا تحصى بألم الحنين إلى فلسطين، تلك العائلات التي شردّت وهُجرت من منازلها وتشتتت نتيجة لذلك في بقاع الأرض.
تذوقت ألم خوف الفقدان، ذاك الألم الذي يجعلك تعيش حالة قلق دائم متوقعا تعرضك، او أحد من احبتك، للأذى في أي لحظة، كما تذوقت الام اضطراب ما بعد الصدمة، تلك الاوجاع التي تطفو على سطح ذاكرتي وتعود للحياة مع كل صوت غارة F16 أو Apache إسرائيلية. حال فيه لمحة -ولو أن المقارنة غير منصفة- من معاناة فظائع الحرب على لبنان، والى ألم الرزوح تحت هيمنة الاحتلال. احتلال مروّع يتلذذ بممارسة كل الأساليب المهينة واللاإنسانية التي لا تهدف لشيء إلا لزرع الرعب والهزيمة في قلوب السكان الأصليين الفلسطينيين الخاضعين لسيطرته، أساليب تكثفت بخباثتها ما ان أدرك المحتل أنه أخطأ بالتقليل من شأن وعزيمة هذا الشعب.
وان ظننتم أنّ تجربتي ومعاناتي غير مألوفة او فظيعة، فيتوجب اعادة النظر. فخلال طفولتي وشبابي، كنتُ أُعتبَرُ من الأقلية المحظوظة ضمن شعبي، فقد عانى معظم الأطفال والشباب الفلسطينيين آلاما وظروفا أصعب بكثير مما مررت انا به، ولا يزال للأسف أطفال غزة يعيشون كابوسا لم يتوقف حتى هذه اللحظة.
على الرغم من الظاهر المعقد للقضية الفلسطينية، فإن الحل المتعلق بها ما زال قائما. ذلك الحل الذي تم طرحه على الفلسطينيين منذ عقود خلت وتم قبوله بناءً على ما يمثّله من اجماعٍ دولي. هذا الحل القائم نظريا على الشرعية والأحكام والقوانين الدولية، والذي تم عرضه بصفته السبيل الوحيد لضمان حل عادل ومنصف لجميع الأطراف. ومع ذلك، نجد أنفسنا اليوم -نحن الفلسطينيون- نكافح لإقناع مبتكري هذا العرض، بتبنيه، واحترامه، وحمايته، ودعمه.
وعلى سبيل المفارقة الدرامية، نرى أن فلسطين، هذه الدولة النامية والمحتلة، هي التي تسعى جاهدة لتطبيق القانون الدولي وتحقيق المساواة والعدل ضمن إطار النظام العالمي الحالي. مع انه يفترض، في الأوضاع المثالية، ان تقوم الدول التي أَنتجت وشرّعت البنائية الاجتماعية بتبني وتطبيق هذه المعايير قبل أي طرف اخر. هذه الدول التي تؤكد أهمية المجتمع الدولي وقيمة المواطن العالمي، مصرحة أن الالتزام تجاه مآسي الآخرين يتخطى حدود الدول. وبلاد تصر على أن هندسة سياساتها الخارجية لا تعتمد فقط على المصلحة الذاتية والثروة والأمن، لا بل إن هذا التصميم يعكس هويتها، مضيفا بذلك جانبا مبدئيا وأخلاقيا له.
لكن وللأسف عندما يصل الأمر لقضية فلسطين، لا تعكس النظرية ولا الممارسة العملية تلك الرؤية لعالمٍ حر مبني على المعايير والقيم المشتركة والمصالح العالمية.
لدى المجتمع الدولي القدرة والوسائل لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، بالإضافة إلى أنه اليوم قد اكتسب أداة جديدة بصدور تقرير منظمة العفو الدولية. لكن للأسف، في نهاية المطاف، نرى أن انعدام الرغبة والارادة، هما ما يحولان دون انهاء هذا الفصل المؤسف من تاريخ البشرية مرة واحدة وإلى الأبد.
لطالما سمعت عن ان مجازر وفظائع -لا يمكن استيعابها- قد ارتكبت ضد الفلسطينيين العزّل على مر التاريخ. سمعتُ قصصا من عائلتي ومن عائلات أخرى، قصصا تعكس الألم والأسى مع كل حرف يتم سرده. لكن عندما قرأت مقال هآرتس الذي نقل اعترافات بعض الوحوش الاسرائيليين الذين اعترفوا بذبح ما يزيد على مئتي فلسطيني أعزل في الطنطورة، ومن ثم الإقرار باستباحة جثثهم والتخلص منها بهذه الطريقة الوحشية، شعرتُ بأن هذه اللحظة هي نقطة تحولٍ في حياتي، نقطة، وللمفارقة جمعت بين العجز والغضب معا.
لعقود خلت كان هؤلاء الجنود والقادة عديمو الرحمة يعلمون أين ترقد هذه الجثث، ومع هذا استمروا هانئين ببناء موقف سيارات فوق رفاتهم. ساحة انتظار مرّ الملايين بسياراتهم فوقها، مشوا وركضوا بحماس عبرها لقضاء وقت ممتع على شاطئ البحر وهم لا يعلمون أنهم يدوسون فوق أجساد مئتي ضحيةٍ قُتلت في واحدة من أبشع عمليات التطهير العرقي لقرية فلسطينية. هل يمكن لهذه القسوة يوما أن تُفهم؟! هذه السياسات الخفية ذات الطابع الميكافيلي تدل بالتحديد على ماهية الديمقراطية والنظام الإنساني الملتزم بالقانون -فرضا- والذي تعتنقه إسرائيل.
على قدر ما أكره الاعتراف بهذا، منذ أن رأت تفاصيل مجزرة الطنطورة الضوء وخرجت للعلن، وانا أمسيت محطمة فكريا. لم أستطع قط تجاوز هذه الوحشية التي أشعرتني بالشلل، كما أن عدم وجود رد يرتقي لمستوى حدث بمثل هذه البشاعة كان أمرا فظا ومُربكا على كافة الأوجه. إلا أنه بعد تصفح تقرير منظمة العفو الدولية اليوم ومشاهدة مؤتمرها الصحفي، أستطيع القول إنها ردت لي الروح! أدركت عندها فقط أننا من خلال مشاركة حقيقتنا كضحايا لهذا الاحتلال المقيت سنتمكن من تحد وجوده الملتوي. فقط من خلال التثبت بالحق ونشره في وجه الباطل سنتمكن من كسر هذه الحلقة العفنة من الظلم المستمر.
مجزرة الطنطورة تمثل قطعة واحدة من صورة مروعة ستستمر بالتكشف خلال الأشهر أو السنوات المقبلة على الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها وستبذلها إسرائيل لحجبها، وفي النهاية ستكشف هذه الصورة الحقيقة القبيحة الخفية لتاريخ إسرائيل.
اليوم أكدت منظمة العفو الدولية من خلال تقريرها على حقيقة مؤسفة أخرى ظل الفلسطينيون يؤكدونها لعقود. مظهرة بذلك ضرورة إيصال صوتنا ومدى أهمية استثمار الدعم لأولئك الذين يقفون مع الحقيقة والحرية وحقوق الانسان. نحن لا نريد اعتذارا قد يأتي بعد عقد من الزمن، نحن نطالب بالمساءلة، اليوم والآن! لذا تكريما لأولئك الذين صمدوا في وجه القهر، التمييز والفصل العنصري، علينا أن نقف شامخين صفا واحدا لإعلاء صوتنا ضد جرائم الاحتلال. وتكريما لأولئك الذين دُفنوا في المقابر الاسرائيلية الجماعية المروعة، سوف نروي قصصهم وقصصنا، سنروي نكبتنا! وعلى الرغم من أن الأمور قد تبدوا كئيبة وسوداوية، إلا أننا يجب أن نمضي قدما، وعلينا عدم الالتفات نحو أي تشويش أو إعلام مضلل أو ترهيب. لأن كشف الوجه الحقيقي للاحتلال هو أهم خطوة نحو طريق دحره. ومن يعلم، لربما كنا أقرب لذلك مما نتوقع.