رام الله مكس-" لجواد بولس"- كنت في بيتي والوقت مساء.. كانت الحركة في شوارع القدس خفيفة وفي الجو برودة لاذعة؛ وكان الهدوء حولي يشعرني بحاجتي إلى النوم، وهو، لمن ينتظر مثلي ظهر الغيب، مستحيل. لم تكن أخبار المستشفى مطمئنة «فحبيبات الرمل قريبة من النفاد» هكذا كتب لي طبيب مسؤول في «أساف هروفيه» وكان يحثني أن أجد مخرجا لقضية «مريضه» هشام، قبل فوات الأوان. يتناوب أبناء العائلة، كسرب من الدوريات، بالنقر على شرفتي ويسألوني عن كل جديد وبشرى؟ ومن رام الله يطلبون مني التريّث فهم يرون الانفراج قريبا؛ أمّا غزة فكانت تعدني بأن خير النيل وأهراماته مقبل.
كنت قريبا من لحظة الانفجار وأحسّ في صدري لغماّ يتحرك على وقع نبض مرتجف، وعقلي يضجّ يسائلني: ماذا لو في هذه الساعات يستسلم قلب هشام بصمت؟ ولماذا لم ينجح العالم في إنقاذه، وهو الذي بدأ إضرابه من أجل أن ينال حريته كأي إنسان يستحق الحياة بكرامة، أو كي يحاكم في محكمة نزيهة وعادلة، بحيث يستطيع أن يواجه أمامها لائحة اتهام واضحة، وأن يدافع عن نفسه بجدارة وبحق.
قبيل الثامنة مساء تلقيت هتافا من رام الله يخبرني بأن الاسرائيليين تراجعوا عن موقفهم السابق، وأنهم جاهزون لقبول موقفنا الذي تفاوضنا عليه طيلة اليومين الأخيرين، فرِحت، لكنني تماسكت، فالأمور محكومة بخواتيمها والشيطان يسكن دوما بين التفاصيل، وأنا أعرف هشاما المقاوم، فهو يريد تأمين الضمانات كي يكون نصره كما تمنى مكللا بالحرية وبالكرامة. تأكدت من الطرف الإسرائيلي بأنهم وافقوا فعلا على سحب مقترحهم الأخير، الذي كان يقضي بتمديد توقيف هشام لمدة شهرين إضافيين، بحيث سيفرج عنه في السادس والعشرين من نيسان/ إبريل المقبل، ووافقوا على أن يفرج عنه مع نفاد مدة أمر الاعتقال الإداري الحالي، أي في السادس والعشرين من شباط/ فبراير المقبل، مقابل أن يعلن عن وقف اضرابه الليلة.
الأسير يُضرِب ليس حبا منه في الاستشهاد، بل تقديسا منه للحياة على أن تكون هذه حرة وكريمة، في الوقت ذاته، لا يستبعد ولا يخاف أن يرتقي شهيدا
سارعت لإخبار أهله وزوجته، أم هادي، التي بقيت بجانبه في المستشفى كل الفترة الماضية، فأبدت رضاها؛ لكنها طلبت مني الحضور مباشرة، فهشام يثق بما سأقوله ويريد أن يسمع مني التفاصيل شخصيا. انتشر الخبر كما يليق بدفق الولادة، وصرت هدفا لمطر غزير من الاتصالات الهاتفية والاستفسارات. كنت أطلب من جميع المتصلين التروّي حتى أصل عند هشام وأسمع رأيه في الاتفاق؛ حاولت ولم أنجح؛ فسماء فلسطين اشتعلت بالأضواء وبالأهازيج، وفي مفارقها، من غزة حتى جنين، بدأوا ينصبون منصات النصر التي بدأت تعجّ بالخطباء والمحللين «والهشاميين». أردت، في تلك اللحظات، أن أصرخ وأطلب أن يتركوا لصانع هذا الفرح رقعة من ضوء على صفحة الليل، فصاحب هذا النصر هو رجل واحد وحيد، مقاوم محب صلب مؤمن، اسمه هشام. كنت ومرافقتي المحامية دانة وحدنا في الطريق، فلم أصرخ؛ وقد تعلمت، خلال أربعين سنة من عملي في فلسطين، سنن الآدميين الأوليين، التي وُضعت من قبل سفر التكوين، فللنصر دوما آباء كثر ومعهم تقف، دائما، كمشة من المدّعين والأفاكين والانتهازيين. كان الليل صاخبا وحالة من التأهب بين حرّاس المستشفى. دخلنا غرفة هشام بعد مماحكة قصيرة مع حارس حاول أن يعترض طريقنا. لأول مرّة انتبهت أن لون عيني هشام عسلي، وأن جبينه أعرض مما كنت أظن. وقفت بجانب سريره في قسم العناية الطارئة في مستشفى «’أساف هروفيه» فرفع ساعده الأيسر بصعوبة ظاهرة، وطوى ثلاثة أصابع على بطن كفه وأبقى سبابته ووسطاه واقفتين لترسما شارة النصر على شكل شاعوب برأسين؛ ولم يبتسم. أمسكت بيده وضغطت على كفه ثم أدنيت رأسي من وجهه فلم أسمع إلا صوت أنفاس الحرير وشعرت بدفء روح شامخة، لا أعرف لماذا تتطيّر بعض المجتمعات من أيام الثلاثاء، فأنا في ذلك المساء تمنيت لو كل أيام الأسبوع كانت ثلاثاء.
رويت له بتأنّ تفاصيل الأحداث الأخيرة، وجميع التداعيات التي تراكمت بعد زيارتي له قبل يوم، وشرحت بإسهاب كيف وصلنا إلى لحظة النصر الحاضرة بيننا. أصغى واستوضح بصوته الخفيض عن بعض التفاصيل، فأجبته عنها بكل صدق وشفافية كما يستحق الفارس الذي من نور وغمام. شعّت عيناه بكلام كثير، فبدا كأنه يولد من جديد، ثم نظر نحو أم هادي وسألها بالإشارة عن رأيها، فحنت عليه برأسها وغمرته بالدعاء وبورق الغار، ففهم وطلب أن يشرب أول ملعقة شاي محلّى من يدها.
لقد سألني هشام لماذا الآن فقط وافق الإسرائيليون على التوصل إلى هذا الاتفاق، وجعلوا، في الواقع، معالم انتصار الأسير أوضح وأعمق، وتأثيره بين الفلسطينيين أقوى؟ لم يكن هذا سؤال هشام وحسب، فقد واجهته من قبل معظم الإعلاميين والمحللين.
وقبل الخوض في الإجابة على هذا التساؤل المشروع، يجب أن نقرّ، بداية، أن إرادة هشام قد انتصرت على إرادة السجان، وأن نستكشف لماذا وكيف حصل ذلك؛ فإذا اتفقنا على العوامل التي أفضت إلى انتصار الأسير على سجّانه، لن يبقى التساؤل الثاني ضروريا. إن العامل الثابت والشرط الأساسي في نجاح مغامرة الأسير، وفي حالتنا تجربة هشام، الذي يلجأ لوسيلة الإضراب عن الطعام، هو قناعته بصحة خياره وتمسكه به بإيمان «قدسي» حتى النهاية. وعندما أقول «النهاية» لا أعني حتى استشهاده بالفعل؛ بل يكفي الأسير أن يخلق «حالة نضالية» صاخبة وقوية، تؤدي فعليا إلى إقناع السجّان بأنه ماض في إضرابه، حتى لو أدّى به الأمر إلى الموت.
يعتمد هذا التكتيك النضالي على وجود فرضية أساسية تقوم على عمادين؛ الأول هو أن الأسير يُضرِب ليس حبا منه في الاستشهاد، بل تقديسا منه للحياة على أن تكون هذه حرة وكريمة بكل معنى الكلمة؛ لكنه، في الوقت ذاته، لا يستبعد ولا يخاف أن يرتقي شهيدا، مع أنه لم يتعمّد ذلك منذ البداية. أما العماد الثاني، فيفترض أن إسرائيل عندما تواجه الأسير الفلسطيني الإداري المضرب عن الطعام، ستتصرف بكل صلافة وعنجهية وعناد، تماما كما يتوقع من كل دولة تحتل شعبا آخر؛ فهيبة الاحتلال لن تتحصّل من دون إفراطه في إظهار العنجهية ووسائل الردع. لكن إلى جانب ذلك تنص الفرضية على أن إسرائيل، رغم حاجتها إلى قوانين الردع، لا تريد أن يموت في سجونها أسير إداري مضرب عن الطعام، وذلك لعدة أسباب قد نعود إليها في المستقبل. لقد اعتمدتُ في جميع الحالات التي مثّلت فيها الأسرى المضربين على هذه الفرضية، فمن دونها ستصبح عملية الدفاع عنهم بدون جدوى وبلا معنى؛ فإذا تعمّد الأسير منذ البداية وصوله إلى الشهادة، من جهة، وإذا لا تكترث إسرائيل، منهجيا، بموت أسير مضرب لديها، فأي جدوى ستبقى من وراء الإضراب؟ وأي معنى للدفاع عن ذلك الأسير؟
إذن شرط نجاح المغامرة الأول هو موقف الأسير وقدرته على الصمود والاحتمال؛ ثم يتبعه وقفة الحركة الأسيرة نفسها، ومعها وجود حركة إسناد شعبية متنامية، يصبح التغاضي عنها تهمة أو إهمالا أو تقصيرا؛ تماما كما حصل بعد ثبات هشام أبو هواش وإصراره على موقفه، فتنامت الحركة الشعبية المناصرة في ربوع فلسطين، وشملت جميع القوى والفصائل السياسية؛ ثم تلتها تحركات المؤسسات القانونية المحلية فالدولية، ثم جاء دور السياسيين في فلسطين وفي أرجاء عديدة من العالم. جميع هذه العوامل تحرّكت بشكل متواز ومتكامل، وحين وصلت إلى ذروتها مع تزايد احتمالات استشهاد هشام، وفقا للتقارير الطبية الإسرائيلية، بدأت إسرائيل بإعادة حساباتها، خاصة حينما استشعرت عودة فقه «الاحتلال والمقاومة» إلى صدارة نشرات الأخبار محليا وفي العالم، واحتمال تفجر الأوضاع داخل فلسطين، بموجة قد تنسف حالة الهدوء النسبي القائم على الجبهتين الضفاوية والغزية على حد سواء. ومع تعالي أصوات الاحتجاجات الدولية، إزاء موقف إسرائيل من قضية أبو هواش، سارعت إلى التراجع، في محاولة لدرء عاصفة الانتقادات الدولية التي بدأت تتناول تجاوزاتها للقوانين الدولية، خاصة في مسألة الاعتقالات الإدارية، وليس في قضية أبو هواش وحسب.
مع ثبوت عدم نجاعة الجهاز القضائي الإسرائيلي مجددا، وكونه جهة متواطئة مع سياسات الاحتلال، وعند اختمار جميع العوامل أعلاه، صار التدخل السياسي ضروريا ووازنا، فقامت السلطة الفلسطينية، رئاسة ومؤسسة أمنية، بدور فعّال وحاسم، كان مسنودا بدعم مصري، أتاح للطرف الإسرائيلي، استغلاله كمخرج تم التراجع من خلاله، فتمكنّا من التوصل إلى الاتفاق المذكور. لقد كانت تجربة شاقة خاضها الأسير أبو هواش، ورغم ما لمسناه من تغيير جدّي في طريقة إدارة هذه المواجهة من قبل المؤسسة الإسرائيلية، القضائية والأمنية، إلا أن إرادته انتصرت في النهاية على إرادة السجان؛ فهل سيبقى هذا الحال عندما سيعلن الأسير القادم إضرابه عن الطعام؟ أم إننا سنرى من جانب إسرائيل تغييرا لقواعد هذه اللعبة التي ألفناها منذ سنين؟