الخميس:
2024-05-02

رصاصة وقلب..واللَد بينهما

نشر بتاريخ: 11 يونيو، 2017
رصاصة وقلب..واللَد بينهما

رام الله مكس – كتبت اسيل سليمان

لا ينسى الكبار منا ولا يجهل الصغار، تسعة وستين عاما من القهر والحزن والخيبات.

تتوالى أيام وتمضي سنين وما زال الكبار منا يحملون أوجاعهم ويحدثون، عن ماض لم يحمل في طياته سوى الألم. يرفضون نسيانه أو تناسيه رغم مرارته بل يحولونه لجزء من واقع حياتهم اليومية، كي لا يسقط الحق أو تموت الرواية.

الحاج داوود ريحان، لاجئ من مدينة اللد، يبلغ من العمر ثمانين سنة، أمضى عقوده الأخيرة يحلم بالعودة لثراها ولو لدقائق خمس.

الرصيف الذي حفظ كل شيء..

“كنت ولد صغير أبو 11 سنة بس كنت واعي يابا وبذكر كل شي صار”.. يتحلق أولاد الحارة حول الحاج داوود على الرصيف أمام بيته مرات عدة كل يوم ليبدأ هو برواية أحداث “اليوم الأسود” كما يسميه وقصة تهجيره وعائلته من اللد، ثم يلوذ بالصمت قبل أن تغلبه دموع الخيبة ويتراجع عن الكلام.

بعد ما يقارب نصف ساعة من الصمت، يبدأ فيها الأولاد بالتململ، يخرج الحاج داوود من جيبه ظرفا قديما ويبدأ بتصفح صور كانت بداخله ثم يعاود الكلام من جديد.. “هاي كانت دارنا، عند سكة الحديد، صح صغيرة بس حلوة ودافية”، ويسترسل “الله لا يجبرهم أجو والزلام مش بالبيوت” يقصد جيش الاحتلال الذي داهم مدينة اللد في الخامس عشر من أيار لعام 1948.

في المشهد الأول يصف الحاج والغصة في حلقه الذعر الذي اجتاح البيوت في تلك الليلة، والأعداد الهائلة من الجنود المشاة الذين اقتحموا كل زقاق وبيت في المدينة. “والله ما عرفنا ع شو! هسا كنا نسمع شوية اخبار من الناس عن الدولة الكبيرة-يقصد بريطانيا- بس ولا مرة توقعنا هيك! اللد طول عمرها مدينة هادية ومخبية، مش زي يافا وحيفا وعكا” يقول الحاج مستغربا كيف انقلبت حياتهم بين ليلة وضحاها وتحولوا من “مالكين الى مملوكين”.

السر !

يسرع الحاج الى بيته، أو يحاول أن يسرع، ليعود بمغلف كبير وعلى وجهه علامات الحماس. يوجه الحاج للأطفال بعض الأسئلة يستجدي بها فضولهم، “احزروا شو هاد ؟ ما عرفتوا ؟ اللي بحزر بخليه يفتح الظرف !”، كل الأطفال يعرفون بالضبط ما يوجد داخل الظرف، لكنهم يرسمون على وجوههم علامات الدهشة والتعجب لشدة حبهم للحاج ورغبتهم في اسعاده.

يفتح الحاج الظرف، ويخرج صورة أشعة لقفصه الصدري وسط دهشة الأطفال البريئة المصطنعة. يلاحظون بقعة دائرية وسط الصورة فتبدأ اسئلتهم “سيدي شو هاد اللي بالنص؟”، “سيدي تسمحلي أمسكها أعطيني أشوف”..

يسارع الحاج الى اشباع فضولهم ويكمل رواية القصة..

“انتو مفكرين يا ولاد انه بس دخلوا الجيش احنا طلعنا دغري ؟ لأ! كلنا كنا متفاجئين وفي منا ما رضيوا يطلعوا من بيوتهم، ناس من الصدمة وناس من الرفض وهدول طخوهم اليهود عالمطرح! وعشان يخوفوا الباقي وما حدا يعصي اوامرهم، صاروا يطخوا بالهوا عالطالع وعالنازل”، يصمت برهة ثم يرفع نبرة صوته ليملأها بالتشويق ويكمل:”هاي اللي بالصورة يا ولاد رصاصة!” ثم يصمت ويفسح المجال لردود أفعال الأطفال، يشهق الجدد منهم الذين يسمعون القصة لأول مرة، ويلقي خالد السؤال نفسه كل مرة:”رصاصة حقيقية ؟ طب كيف لسا عايش؟!”

يكمل الحاج داوود وفي عينيه فخر العالم كله:”هاي رصاصة طايشة، اجت وقعدت جنب قلبي، ومن الخوف والعجلة اللي كنا فيها ما حسيت فيها ابدا، الا قبل عشر سنين، حسيت بوجع خفيف بصدري ولما عملنا الصورة بين كلشي”، ينظر الى افواههم نصف المفتوحة من الدهشة المصطنعة والحقيقية ويتابع:”بتوجعنيش هسا الا مرات بالليل بعرفش انام بس بهمش، انا اصلا بحبها لهالرصاصة، هي الاشي الوحيد الي طلعت فيه من اللد، بحبها لانها بتذكرني ليش هي موجودة عند قلبي وانا بعرف اني بس ارجع عاللد رح تروح لحالها”.

يمرر الحاج الصورة على الاطفال وكأنه بطل حرب يستعرض أوسمة شرفه، ثم يستعيدها ويحذرهم:”بس هاد سر كبييير، بضل بيني وبينكم، بلاش ييجو الجيش يوخدوا باقي اللد مني”.

حفظ أولاد الجيران جميعهم قصة الحاج داوود، ولكنهم يعودون كل يوم ليسمعوها مجددا، وقد يشاركه أحد الأطفال الرواية بكل انفعال، ومنهم الطفل أحمد ذو السنوات العشر.”

كل يوم باجي عند سيدي داوود دغري بس أرجع من المدرسة بروحش عالدار باجي هون. سيدي داوود بكون زعلان وهو يحكيلنا بس أنا بكمل عنه بس يسكت” يقول أحمد ثم يسارع ليكون الأقرب الى الحاج في الحلقة.

يودع الحاج الأطفال ببضع توصيات باتوا يحفظونها عن ظهر قلب، “اسمع انت وياه انا بكرة بموت بتضلوا انتو، اوعوا تنسوا يابا اوعوا تنسوا.

انا كبرت ويا دوب بقدر امشي والمسؤولين نسيوا..اوعوا تنسوا يابا”.

لا يشرح الحاج داوود تاريخا، بل يخاطب أفئدة الصغار وما تحمله من براءة وغيرة على الوطن.

عند نهاية كل لقاء يودع الحاج أطفاله ويحضر نفسه لاستقبال غيرهم..

أسعار العملات
دولار أمريكي
دولار أمريكي
3.766 - 3.758
دينار أردني
دينار أردني
5.319 - 5.293
يورو
يورو
4.031 - 4.022
الجنيه المصري
الجنيه المصري
0.079 - 0.078
الخميس 02 مايو، 2024
الصغرى
العظمى
17º